السبت، 14 مارس 2009

العراق ..إيقونة بارزة في شعر د. صدام فهد الأسدي





عندما نغوص في قصائد د. صدام فهد الأسدي ،فإنه يسيطر علينا ، ويقودنا مختارين إلى عالمه الشعري الخاص.وهو عالم المفاجآت .
إن قلت َ عنه صوفي ، يفاجئك َ بأنه سياسي بارع يفكر بطريقة إستراتيجية ،ويضع يده على لب المعضلة ، ولا يتركك محتارا ً فيدس لك الحل بين السطور بطريقة رمزية وفنية قلّما نجدها عند شعراء العصر الحاضر .ثم ينتقل بك من العصر الجاهلي عبر العصور التالية حتى تجد نفسك في عصر ما بعد الحداثة .
إن أجمل ما يميز شعر شاعرنا هو ذلك النفس الثوري والموسيقى السيمفونية الهادرة المتصاعدة .وعندما أقرأ شعره أجدني في قاعة كبيرة وهو يقف على المنصة ، وتصفيق المتلقين يقاطعه بعد كل بيت أو مقطوعة .
من كل ما أسلفت ،أجد نفسي أمام عملاق شعري شامخ ،وشاعر شامل يطرق كل مناحي الحياة المختلفة .فهو يكتب في السياسة والحب والفلسفة في نفس القصيدة .ويستنطق الموروث الثقافي والديني والأسطوري بطريقة عفوية جميلة وغير متكلفة ، وهذا يدل على أننا أمام شاعر مثقف بشكل فوق عادي .إنه موسوعة في الشعر والأدب والثقافة .ولا أريد أن أطيل .دعونا نرى العراق في شعر هذا الأستاذ المبدع .
لقد أخذ العراق وهمومه وأوجاعه وأحزانه وأفراحه القليلة مساحات واسعة من شعره ، حتى اضطررت أن أسمي العراق (إيقونة ) مثبتة على برنامج النوافذ ( ( windows في شعره . وما على المتلقي إلا أن ينقر على الفأرة ليجد العراق ماثلا ً أمامه بكل تناقضاته ، وجمال طبيعته الخلابة .
وفيما يلي سأمر على العراق ، وكيف صوره شاعرنا تصويرا ً جميلا ً جعله معرضا ً للصور الشعرية الواقعية ، وأسقط عليها جمالية إضافية من خياله الخصب ، فزادها جمالا ً.
دعونا نبدأ بالإبحار :
1- التغيير الأخير في العراق
تحدث شاعرنا كثيرا ً عن فترة ما بعد 9-4 – 2003 . ولكنه كان يطمح إلى تغيير مثالي .يجعل من العراق جنة الله على الأرض ،وتكون بمواصفات المدينة الفاضلة .فهو يحلم بعراق حر ديمقراطي يلغي من قاموسه الطائفية والعرقية البغيضتين .
لنتأمل قصيدة ( بيادق خرساء) .يقول الشاعر :
رويدا ً تسلق نجمي سراج ٌ بعيد
هبت الريح فجأة
وسقوط الكوابيس يأتي سريعا ً
كل الدروب تمر على قافلة الغرباء
هل تسمعون الصراخ ؟
ثمّة من يئن ّ خلف الستار
ذلك الشبح المهجري أنا
والحماقات تتعب الزائرين
أراقب على البعد تلك الغيوم
تساقط من دمعتي مطر الإنبهار
من سيفك ّ البيادق َ من لعبتي ؟
إنها لعبة خاسرة
لقد حدث التغيير ، وسقطت الدكتاتورية بشكل دراماتيكي سريع .والغرباء يحكمون العراق .لكن هناك من ينبه إلى خطر قادم .وهناك خوف على العراق من تبعات هذا السقوط .هل حضرنا لما بعده ؟(من سيفك البيادق من لعبتي ؟ ) . لنتابع ونرى :
كل شيء طريقه للزوال
جدنا أمس ِ قال :
ستلعب بالأرض تلك َ
وربما تحلب من ثديها غصة َ " الإنشطار "
إنه يحذر من تقسيم العراق . نظرة إستراتيجية ثاقبة .وكأني به يقول : أحذركم أيها العراقيون .إياكم من تقسيم العراق .
ويتابع :
كيف يرضى المغني ؟
ينام َ على دمعة للصغار ؟
ومطربة الحي لا تعجب السامعين
أي نجم تدلى على لقطات الغبار ؟
فالزوابع تعرف ماذا يحيل النهار
ليس شرطا ً لمن يعبر البحر َ أن يغلب َ الموج َ
إنه يحذر العراقيين من ثقافة التغريب .وكأني به يصرخ : يا أبناء العراق ، لا تتفرنجوا ولا تتأمركوا .بل حافظوا على أصالتكم . ومن أجل أن يثبت وجهة نظره ، يسترجع مأساة كربلاء :
كل شيء طريقه للفناء
غير تلك الرجال التي بذلت أنفسا ً للفداء
كم كتبنا
قرأنا
عرفنا
تمر السنون الطوال
وبُدِّل َ شكل الوفاء
وكم يتغير الأصدقاء
وكم يغضب الغرباء
وكم يرحل العظماء
كل شيء تغير كيف تريد السماء
وظل الحسين بنبض القلوب يبلور لحن العطاء
وظلت على الأرض ملحمة تُسمى كربلاء
يحذر الشاعر العراقيين من الثراء على دماء الشهداء الذين سقطوا في سبيل التغيير .ويذكرهم بالإمام الحسين " ع" الذي ضحى بنفسه بالرغم من أن معظم الناس تخلوا عنه وانفضوا من حوله ، وتركوه وحيدا ً أمام جيوش الظلم والبغي العاتية .وكأني به يقول : لا تنبهروا بكل جديد وغريب .حافظوا على أصالتكم ، فكل الذي فوق
التراب ِ تراب ُ .
2- الثقافة في العراق
يحن شاعرنا إلى الأصالة باستمرار .وإلى الأيام الخوالي التي دفع فيها المثقفون ثمنا ً باهظا ً لتمسكهم بآرائهم الإصلاحية .فقد تغربوا وتشردوا وجاعوا ومنهم من سجن وعذب ومنهم من قُتل .وعلى رأسهم متنبي هذا العصر " محمد مهدي الجواهري " .
في قصيدة بعنوان " غناء متأخر لضفادع الشعر " ، يقول الشاعر :
فأبو فرات ٍ ليس شاعر َ عصره ِ
بل فحلَها أبدا ً بلا استثناء ِ
فقصيدة ٌ لأبي فرات ٍ وحدَها
قَسَما ً... تفوقُ ملاحم َ الأدباء ِ
الفحل ُ فحل ٌ ليس يُنقِص شخصَه ُ
قول ُ الضعيف ِ بساحة ِ الجهلاء ِ
ثم يضرب لنا مثلا ً آخر هو الشاعر " بدر شاكر السياب " .يقول الشاعر في قصيدة بعنوان " أقواس " :
ما جئت ُ زماني كي أمدح َ هذا
بل أكتب َ للحرية
وأسير على درب السياب
وفي قصيدة بعنوان " أسباخ على رصيف التعب " ، يقول :
كم كان السياب فقيرا ً
أغرق شعره بالأهوال
أين ليالي العشق ِ ؟ ..
عجيبا ً..
ما ظلت أي ليال
أسباخ ٌ في شكل الورد ِ
وبقايا من ألف ِ هُزال
أغني ألف َ نشيد ٍ يا وطني بهواك
وتنبذني منك َ ترابا ً..وأبقى أهواك
وأموت ُ.. أموتُ أكيدا ً لو عِفت ُ هواك
دعونا نبحر في قصيدة " غناء متأخر لضفادع الشعر " ، والتي يعلن فيها الشاعر ثورته على الخربشات التي ملأت فضاء الإنترنت .كما يعلن إعتراضه على " قصيدة النثر " .يقول :
قالوا على الجبل الكبير مقالة ً
يا ليتهم قالوا على الضعفاء ِ
هنا يتوقف الزمن ُ
ومني تصرخ النّعم ُ
وترتعد الفرائص ُ .. يذبل الغصن ُ
على القامات أهل النثر ِ قد هجموا
لماذا الوقت أصبح هكذا خَرِفا ً ؟
وليس به سوى الطعنات ِ تحتدم ُ
سأغلق باب أفكاري
وألعن يومنا لمّا
تساوى الدّر ُّ والفحم ُ
ثم لا بد من بروز إيقونة العراق ، يقول الشاعر :
فغدا ً يسبون العراق لأنهم عجزوا المُقام َ بساحة الكرماء ِ
أغني ؟ لا أغني الزيف َ
إذا غنوْا وقد رطنوا
فأهل الجهل ِ والسخفاءُ بالأحداثِ قد فُتنوا
وأهل السخف والخَطَرات ِ للشعراء ِ قد كرهوا
وقد سبّوا
وقد لعنوا
وتبلغ ثورته على أدب التغريب والتخبيص ذروتها في قصيدة بعنوان " صرخة في عنق الزجاجة " ... يقول :
حكاية الأدب المذبوح ِ قد دُفنت ْ
وتسرع اليوم َ من قبر ٍ لحفّار ِ
نكاية الدهر ِ .. أمسى الشعر مقصلة ً
يسير بالناس من ذبح ٍ إلى الثار ِ
خرافة العصر تمضي اليوم لعبتها
وتنطلي فوق رأس الشعر ِ كالقار ِ
يا صرخة َ الشعر ِ هيا ذكّري وطني
بل أنقذي الشعر من باغ ٍ وسمسار ِ
تفجرت صرختي الشمّاء يا وطني
لعلها تجعل الأوهام أسواري
يا حسرة الشعر ِ إنّ المال خدّره ُ
وسعره بات محدودا ً بدولار ِ

3- الوضع الإجتماعي والمعيشي في العراق

لا يكاد نص من نصوص شاعرنا إلا ويعرّج فيه على الوضع المعيشي الصعب لأهل العراق .والفقر يحتل مرتبة متقدمة في شعره .وكأنه يُخرج السياب من قبره ليقول لنا في " أنشودة المطر " :
( ما مر ّ عام ٌ والعراق ليس فيه جوع )
ففي قصيدة " رؤى من زبد النسيان " ، يقول الشاعر :
أفق ٌ أبيض ُ معني ٌّ بالفجر
شمس ٌ تشرق لتضيء ظلام الناس
فقر ٌ .. جوع ٌ وكفاف ٌ يسحق حتى الإحساس

لكنّ الناس تصفق للهذيان
كم أصبحت ُ أفكّر وأشك ُّ
بأني إنسان ٌ لا يعرف معنى الإنسان
ما دمت ُ أعيش بأرض ٍ يُقلَب ُ فيها الميزان
وفي قصيدة " بيادق خرساء" يقول :
يعلمني زمن الفقر
أن جوعي تضاعف في العمر مثل الغبار
تيقنت بعد التي واللتيا
بأن الغزالة محمية ٌ عندما وصلت للفَقار
إن شدة الفقر والهزال الشديد جعل منه الشاعر وقاية لمصاصي دماء الشعب العراقي.فعندما تهزل الغزالة لن يطمع فيها المستغلون الفاسدون .

4- البصرة

شاعرنا بصري حتى النخاع ، وبامتياز أيضا ً .فهو يعيش في مدينة البصرة .ويحاضر في جامعاتها . والبصرة مدينة جميلة ، ومنطقة الجنوب مليئة بالموارد والخيرات كالبترول والنخيل والسمك .ولكن الجنوب الغني بقي فقيرا ً معدما ً ، نتيجة سياسات الإهمال والتهميش من الحكومات المتعاقبة .
دعونا نعيش في رحاب قصيدة جميلة ، تتحدث عن البصرة ..عنوانها
" سلة الرّطب " :

1
لوقلت البصرة - قلت العجب
ماء ,شعر,فكر,نخل سلة رطب
تلبس كل مدائن هذا الكون التاج من الفضة
وتعطي البصرة تاج الذهب
2
- قد وهب الله الاسماء لابينا ادم
نزلت عمتنا النخلة في ذاكرة الايام
فتوهج من قلب النخلة اسم البصرة
3-
وتثلم شكل الارض كثيرا
فجبال ,وديان وسهول والريح
فرشت تلك عباءتها والقول فصيح
قالت هذا الميناء - وهذا العشار
والتنومة تسقي نهر بويب حزن الامطار
شب قصي في ذاك العمر فتى يرمي نهره بالاحجار
واليوم قصي يسقي نهر التنومة بالاشعار
4-
سماها الناس بمختلف الاسماء
كانت عند اليونان، السرو الرمز،
وعند العرب النخلة
ومادام النخلة رمزا للبصرة فالبصرة رمز العرب
5-
املأ كفيك بسلة رطب من تمر القرنة الريان
واشرب كأسا من نهر عويسان
بل صِدْ سمكاً من حمدان
تشتم بها رائحة السياب وسعدي يوسف والبريكان
6-
هذا وقت الموت بحب البصرة - هل نتركها للغرباء
البصرة تعرف ساكنها ,والبصرة تعشق شاعرها مثل النخل
والبصرة تكرم زائرها فهم الأهل
فكرت كثيرا كيف احب البصرة لاجدوى
ابقى فيها اذوق الرطب الريان
واشوِ السمك الحلو لكل الأحباب
واسمع بيتا من شعر السياب
وأنام الليلة مرتاحا من لغو الاجناب
7-
البصرة مهدي ارفض ان يسرق مني الناس المهد
البصرة امي ارفض ان يسرق منها الناس الوجد
البصرة شعري ارفض ان يستل عليها الحقد
البصرة عشقي وحبيباتي لا أحيا من غير الوقد
البصرة تاج عراقي هل اترك واسطة العقد
البصرة زندي وملاذي كيف ساطوي رحال الزند
البصرة تاريخي وحصادي في الف مرت والمجد
سيغني يوما للبصرة إذ كانت مبحرة المد
عهدي أن الشعر قليل لا يكفي للبصره العد


أنا شخصيا ً لم أدخل البصرة ، لكن شاعرنا المُجيد جعلني أعيش فيها يوما ً سياحيا ً ولا أجمل من خلال الإبحار في هذه القصيدة الرائعة .... الرطب الريان .. شوي السمك الطازَج .. شعر السياب .. الكرم العربي البصري الأصيل .. تاج العراق .. الأم ..المهد ..العشق ..الزند .. الملاذ .. التاريخ ...
وأخيرا ً يقول شاعرنا إن الشعر قليل لا يكفي لمديح البصرة وفضائلها .
أرجو أن أكون وُفقت في هذه القراءة السريعة أثناء الإبحار في شعر الأستاذ الدكتور صدام فهد الأسدي .وأدعو الله أن يمد في عمره ، ويتحفنا بأشعاره الجميلة .فهي كالرطب الطازجة بل أشد حلاوة ً :
فالشعر جاء من العراق
والحب جاء من العراق
والحزن جاء من العراق
وأنا أقول بأنني سأظل أشدو دائما ً :
روحي يحلق في سمائك َ يا عراق

ليست هناك تعليقات: