في هذه الحلقة سنتحدث عن فضاء الليل وفضاء الموت في شعر إبتهال بليبل، وهما فضاءان أخذا مساحة واسعة في شعرها .دعونا نبدأ :
أولاً : فضاء الليل
من خلال دراستي لشعرها ، أكاد أجزم أنها من الشعراء الذين يعشقون الليل بشكل إستثنائي .وتتميز عنهم أيضاً بعشق اللون الأسود والسواد بشكل عام .فالليل عندها مثل لازمة الأغنية التي يرددها الكورَس بين مقطع وآخر .والليل عندها عالم فسيح لامتناهي .تهيم في هدوئه ، وتستخرج منه آلامها وأوجاعها التي تعيش معها في ليلها الخاص بها .والليل يتكرر في شعرها باستمرار .
دعونا نبحر في قصيدة " غَثَيان ُ الليل " ، فهي تفي بالغرض ، وتوضح لنا ماذا يعني الليل لإبتهال بليبل :
هذه القصيدة من أجمل ما كتبت الشاعرة .فقد نجحت بامتياز في تقمص شخصية المرأة التي تتحدث ُ عنها داخل النص ، كما كانت موفقة ً في شكل ومضمون وبناء القصيدة بشكل رائع ، بحيث تحولت القصيدة إلى قصة قصيرة ذات أحداث طويلة تتسلسل ضمن فضاء واسع إسمه
" الليل ".حتى أنها ربطت عناصر القصة بالليل وبشكل فني متناسق.
إن مقدمة القصيدة مبتكرة وتدخل المتلقي في جو النص بشكل سلس وتلقائي . لندخل ونشاهد :
همس َ المساء ُ كمحموم ٍ
يرتشف ُ المطر ْ
فعتبات ُ حنينه ْ
تاهت على ضفاف ِ حلُم ٍ
بندى الوهم ِ المتناثر ِ
لميلاد ِ ليل ٍ
لم يدن ُ بعد ُ...!
كوشم ٍ أقتُلِع َ مكانُه ُ
وتعبت أركانُه ُ
المساء هو مقدمة لدخول الليل .وقد أنسَنتْه ُ الشاعرة بتشبيهه بشخص أصابته الحمى ، فعمد إلى ارتشاف قطرات المطر من أجل أن يخفف من الحمى .التعبير هنا مقصود ومخطط له بدقة .فلا أحد يستطيع أن يشرب من المطر المتساقط سوى ارتشاف بعض القطرات التي لا تسد الرمق .
والحلم والوهم يعبران عن حب يائس وبائس وعاثر .والليل الذي لم يدن ُ بعد ُ هو حتما ً الفراق والبعد عن الحبيب وما يصاحبهما من عذاب وتشظي ،وأحيانا ً ندم .ثم شبهت الشاعرة الحالة بإزالة الوشم وما يتركه من آثار بشعة على الجلد الموشوم .وهذا دليل على أن آثار الحب لا تزال موجودة .
لنتابع :
سقط جمر ُ الليل ِ في موقد ِ الروح ِ
بشهقة ِ الآه ِ لملمتُه ُ
ثار بنواحِها السقم ُ
فألزمها الصمت ْ
بدأت الحالة بسقوط جمر الليل في موقد الروح .هناك نار تشتعل داخل روح المرأة العاشقة .صورة شعرية جميلة تجعلنا نتخيل امرأة " وهو إنعكاس المرأة نفسها " ، وهي تلملم الجمر المتناثر، لكن السقم لم يتركها بحالها ، حيث ثار عليها وأسكتها وألزمها الصمت .
ثم يتصاعد الوضع ويزداد سوءا ً :
البسمة ذَبُلت ْ
على قارعة ِ وهم ٍ منبتُه ُ قنوت ْ
فمد َّ يديك َ يا قدر ُ
وداعب شهوة َ الموت ِ
فقبر ُ الليل ِ منتصب ٌ
على ظلال ِ وطن ٍ رسم َ للنجوم ِ فما ً
يرتشف ُ نَخب َ أميرة ٍ من الوهم ِ
من شدة اليأس تتمنى هذه المرأة الموت َ ، وأن تُدفَن في قبر الليل الجاهز لإستقبال جثتها . وبعدها يرتشف فم النجوم نخب الأميرة الميتة .والتي كانت من قبل أميرة حب ذلك الحبيب الغائب والمفقود .
نلاحظ أنه كلما تصاعدت الدفقات الشعورية عند شاعرتنا ، يدخل الليل على الخط .مما يدلنا على أنها جعلت الليل محور القصيدة .
لنتابع ونرى اتضاح الصورة أكثر :
غَثَيان ُ ليلي
يفتش ُ عن تِرياق ٍ يخمد ُ لهفة َ الحروف ْ
فعروق ُ كفّي شلَّها الشّوق ْ
وسقطت على رداء ِ السطور ْ
أيها الشارد ُ من عبق ِ الروح ْ
غثيان ُ ليلي
ينفُث ُ سكرة َ الرحيل ْ
وملايين ُ الدروب ِ
خطّتها أقداري
يبدو أن المرأة العاشقة قد كتبت لحبيبها الكثير من الأشعار.ولكنها حروف لا تزال متلهفة ، إنها تبحث عن دواء ناجع يسكت حروفها .ومن شدة الشوق شُلّت عروق كفها التي تمسك القلم وتكتب له .وسقطت على رداء السطور المكتوبة لذلك الحبيب القاسي الهارب من عبق الروح الشذي .ولذلك فهي تفكر في الرحيل عن حبيبها .
لنتابع :
ملامحُك ْ
مللت ُ من رسمِها بجدار ِ الحنين ْ
وأنا أشرب ُ ألوانَها
من حدق ِ النجوم ْ
لأمارس َ تمرُّدي ساعتَها
فليلة ُ...
أرسمُها كبدر ٍ مضيء ْ
وأخرى كليل ٍ مظلم ٍ
ليلة ٌ ...
أوقدُها بنار ِ قلبي
وأخرى ...
أطفؤها بدموع ِ شوقي
حنين ، ورسم ملامح ، وشرب الألوان من النجوم ، وتمرد من شدة الألم ...وكأني بها تقوم بعملية عسكرية تحريكية : ليلة كالبدر ..وأخرى مظلمة ..ليلة تضاء بنار القلب وأخرى تطفأ ُ بنار الشوق .هل هناك عبارة أبلغ من " رسم الليل بالليل المظلم " ؟؟.. إنها تعبير فلسفي فيه لمسة صوفية تطهّرية وتبتّليّة ...ولا أجمل .
لنتابع فصل التوسل من شدة اليأس والغضب :
أنقذني ...
فخيمة ُ روحي تشرنَق َ طيفُك َ فيها
والقمر ُ يأبى الوشاية
وليلتي هي الجنون ْ
أمل ُ الجياع ِ أن أكون ْ
مائدة ً..
كي ألملم َ قطرات ِ مطر ِك ْ
أزرعَها بأرصفة ِ الإنتظار ْ
بجوار ِ قلاعِك ْ
ألملم ُ عطايا الوِصال ْ
فمُد َّ يديك ْ
وأعطِني مما أعطاك َ الله ُ من رحمة ْ
تتمنى أن تتخلص منه ولكنها عاجزة ، فطيفه تشرنق في روحها ،وصنع له بيتا ً حصينا ً ، ما أجمل الصورة والتشبيه ! .. وكأنها تقول للحبيب القاسي بغيابه عنها : إرحم يرحمك الله .
وأخيرا ً :
عُذرا ً..
اللحظة َ ..
سأتجلبب ُ بذكراك َ
وأترك ُ طيفك َ يدثرني
فحبُّك َ...
يدُك ُّ القلب َ حتى يتقيأ وجعا ً
ويرجم َ الشوق َ بالحجارة ْ
فتلج الروح ُ في حفرة ِ القبر ْ
إنها النهاية المأساوية المؤلمة ، التي تحرك أشد القلوب قسوة .فالذكرى ستغطيها من رأسها إلى أخمص قدمها " لاحظ البلاغة العالية في تعبير سأتجلبب ".كما أن طيف الحبيب سيدثرها .إذن .. ستفارق الحبيب ولكن من سابع المستحيلات أن تنساه أو حتى تتناساه .فحبه جعل قلبها يتقيؤ الوجع ويرجم الشوق بالحجارة ...حتى يميت الروح .
إن قمة البراعة والإبداع عند إبتهال بليبل تكمن في تقمصها لشخصيات نصوصها بحيث يشعر المتلقي أنها هي التي تعيش القصة في الواقع .وقد لاحظت ُ ذلك من تعليقات بعض الشعراء على نصوصها .
ثانيا ً : فضاء الموت :
إبتهال بليبل شاعرة وكاتبة لها طقوسها الخاصة والمتميزة ، سواء في وصف الموت أو تصويره .ومثلما تجعل من الألم والوجع والحزن عبارات تتكلم ، فإنها تجعل الموت أمنية الإنسان اليائس أو نهاية محزنة لقصة معينة . كما أنها تلجأ إلى الموت كحل يفكك عقدة الموضوع الذي تكتب عنه .
في قصيدة " رائحة الوجع القادمة من بعيد " ، تقول :
رائحة ُ الوجع القادمة ُ من بعيد ٍ
تُجبر ُ أحباري
على ارتكاب ِ جُرم ٍ بحق ِّ سطورِها
قبل وصولِها
لتدق َّ ناقوس َ الموت ِ
ليوم ٍ غاب َ فيه ِ الأمل ُ
قبل أوانِه ِ
لقد غاب الحبيب وصار بعيد المنال ، وهذا الغياب كان نذير شؤم ، وهي تتوقع أمورا ً سيئة " رائحة الوجع القادمة " .ولذلك فهي ستنحر سطورها التي تكتبها لحبيبها الغائب قبل وصول رائحة الوجع .والحل هو موت هذه السطور .
وفي قصيدة بعنوان " مشوار ٌ طويل " ، تقول :
التهشّم ُ يستوطن ُ روحي
وصفحاتي ممزقة ٌ
إلا صفحة دفني
سالمة
تجوب ُ قفار َ السّماء ِ
بغرغرة ِ الموت ْ
إنها نهاية ٌ مفجعة .... الموت .
وفي قصيدة " يا غزّة َ يا قرينة َ وجعي الثالث " ، تقول :
واليوم َ غزّة ُ تثير ُ صحوة َ الموت
أين نحن ُ ؟
وأين هم ؟
لا تتوقعوا يا قابعين َ هناك حيث الدمار ْ
أن يدا ً سمراء َ
ممسكة ً بقرآن ِ الإسلام ِ
ستنقذكم
فاليأس ُ مفتاح ُ الفرج ْ
والموت ُ خير ُ الحلول ِ وأفضلُها
نلاحظ أنها من شدة يأسها من العرب والمسلمين ، قامت باستبدال كلمة الصبر بكلمة اليأس ..ثم أنهت المشكلة بالموت .
وفي قصيدة بعنوان " الموت ُ يقِظ " ... تؤنسن الشاعرة الموت والكفن وتشخصنهما أيضا ً ... تقول :
الموت ُ يقِظ
يعُد ُّ الخطوات ْ
والكفن ُ يستقبلُها بالأحضان ْ
يراهِن ُ على خطوات ٍ منسية ْ
بنوبة ِ حياة ٍ يشحنُها وجودُك ْ
وفي قصيدة " أسَلبْت َ روحي ؟ " ... تقول :
الذّعر ُ هو ميلادي وموتي
ضحكاتي
كفني وحياتي
أليأس ُ هو الموت
هذه أنا
أبحث ُ عنّي
ولا أجدُني
لقد قرنت الموت بالذعر واليأس ، وحتى الضحكات تستكثرها على نفسها .فهي إنسانة مجبولة بالحزن .
وما دمنا نغوص في فضاء الموت ، لا بد من التعريج على القبور والمقابر في شعر إبتهال بليبل .الغريب أنها تحب التجوال بين القبور والمقابر حتى في قصائد الحب والعشق والغرام .وتعطي المتلقي أدق التفاصيل عن المقبرة ورائحة الموت والجماجم والعظام . لنستمع إليها في مقطوعة بعنوان " القبر " .. تقول :
تغفو في جوف ِ قبره ِ
تنتظر ُ الشوق َ المُقيم َ
في عمق ِ القبر ِ
لترتمي على قدميه ِ
قبل َ أن تطحنَها رحى الموت ْ
والموت في شعر إبتهال بليبل ليس الموت المتعارف عليه فحسب .إنه يأخذ أشكالا ً متعددة ، مثل موت الإنتظار .لنستمع إليها في مقطوعة بعنوان " دونك " .. تقول :
دونك َ ...
تنتفض ُ عروقي
فتعلن ُ أقدامي الرحيل َ
صوب َ موت ِ انتظاري
وأحياناً تخاطب الموت معبرة عن يأسها وقنوطها .ففي مقطوعة بعنوان " تعال َ يا موت " .. تقول :
تعال َ يا موت ُ وخبئني
إجذبني منه ُ إليك َ
لُفَّني بأشواقه ِ المنتحرة ِ في َّ
توغّل ْ بأنفاسي
فسقمُك َ يا موت ُ أرحم ْ
ومثلما للإنتظار موت ٌ عند إبتهال بليبل ، فإن للنسيان موتا ً أيضا ً .لنستمع إلى مقطوعة جميلة جدا ً بعنوان " أستحلفك َ بالله " .. تقول :
أستحلفك َ بالله ِ يا ساكني
أخرج ْ مني بسلام ْ
سأتلو عليك َ ما كتبت ُ بخط ِّ قلبي ألما ً
فأنا مصيرُك َ المحتوم ُ الذي يعود ُ إليك َ
ليمنحَك َ موت َ النسيان ْ
ويطفىء َ بريق َ تمردِك ْ
وينتزع َ بقايا روحِك ْ
ومن خطواتك َ بقايا أشلائي
وسأحرّر ُ تقمّصَك َ لي
وأعلمَك َ كيف تتذوّق ُ الوجع ْ
وإن شئت َ فَمُت ْ في داخلي
فموتُك َ غنيمة ٌ لي
ونختم فضاء الموت بمقطوعة ولا أجمل بعنوان " موت ُ حبي وحبُّك " .. تقول:
بجواري سِجِل ُّ حياتي
مشاهد ُ بجواري كاملة ٌ
بجواري قلم ٌ
سأختار ُ به ِ عدد َ الذين َ يسيرون َ بجنازتي
ربما أستثني أحدَهم من السير ِ في الجنازة ْ
لأنني على موعد ٍ معه ُ هناك ْ
ينتظُرني منذ ُ عهود ٍ
بجواري يسكن ْ
إن الموت في شعر إبتهال بليبل معزوفة لا تنتهي أبدا ً .
إن الفضاءات في شعر إبتهال بليبل كثيرة جدا ً وواسعة .ولكنني آثرت ُ أن أكتب عن الفضاءات الهامة والتي تعطي صبغة معينة وخصوصية بارزة لهذه الشاعرة المبدعة .كما أرجو أن أكون قد أوصلت الفكرة إلى المتلقي بشكل جيد .وأعتذر إن قصرت في حق هذه الشاعرة المُجيدة .
وأود أن أختم هذه الدراسة بمقطوعة لي تتحدث عن الأديبة إبتهال بليبل :
إحترت ُ بوصفِك
يا نجمة َ ليل ٍ بغدادي ّ القَسَمات ْ
أرى فيك ِ نخيل َ عراق ِ الخيرات ْ
بل روح َ الأهوار ِ التّوّاقة ِ للبسمات ْ
يا أرزة َ صِنّين َ المُتسامي فوق الغيمات ْ
أراك ِ الحسّون َ الشادي
فوق البلّوط ِ بعَنطورة َ
يا قمر َ الهرمل ِ
يا أنقى
من لون ِ الثلج ِ بجبل ِ الشيخ
حقا ً ...
أعترف ُ بأنّي
إحترت ُ بوصفِك ِ سيدتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق