الأحد، 15 نوفمبر 2009

ألشاعرة اٌلمُخمليّة د.هناء اٌلقاضي

روضةُ أشعارٍ تتشظى
ما بين لهيبِ الغربةِ
وصقيعِ المنفى




كنتُ وما زلتُ من المتابعين لنصوص اٌلشاعرة المخملية ألدكتورة هناء القاضي ، صاحبة الكلمة الراقية الخفيفة اللطيفة . وكان لا بد من وقفة نقدية لشاعرة اٌشتغلت على شعرها جيداً . حتى تمكنت من الإمساك بأدواتها ، واختطت لها طريقاً مميزةً في كتابة قصيدة النثر الحداثوية . وفي هذه القراءة السريعة سنتعرض لعدد من قصائدها بالدراسة ، وذلك لكي يطلع القارئ على إبداعها الأدبي .

هناء القاضي شاعرة مخملية بامتياز ، فهي تنقل المتلقي إلى جو النص الشفاف النقي البريء الممتلئ بعبارات المعاش اليومي . وما أعجبني في شعرها هو بساطة الكلمات والعبارات والصور ، فيخال المتلقي نفسه امام نصوص طفلة شاعرة ، تحمل عقل وقلب امرأة ناضجة .

عند كتابة النص يسيطر على الشاعرة هاجس البعد سواءً عن الوطن أو الحبيب . ونلاحظ تكرار هذه الظاهرة في الكثير من قصائدها . وحين تقرأ شعرها ، تجدها تتحدث عن امرأة أضنتها حياة المنافي والشتات حيث نلمس عن قرب نبرة الحنين المجبول بالحزن إلى وطنها " العراق " . وحتى في قصائدها الوجدانية تتخيل وكأنها تخاطب حبيباً أسطورياً يأبى أن يرجع .. فتحس بأن بين ثنايا النص هاجساً خفيّاً يقول :" عراق عراق عراق " .وهي من الشعراء الذين يجمعون بين الوطني والوجداني بأسلوبٍ سلسٍ وجميل.
لنبحر في النصوص لنرى التشظي سمة بارزة في شعرها المخملي النبرة
في قصيدة بعنوان "سيدي البعيد 9 " ...وهي سلسلة من القصائد تحمل نفس العنوان ، تقول :

أنا


اٌلوريثةُ اٌلأثيرةُ .. لآخرِ سُلالاتِ اٌلوَجْدْ

ولا أكُفُّ عن اٌلتفكيرِ بكَ يابعيدي

.....

قالوا: أنكَ .. تغيرتَ كثيراً


وأنا من مسافاتي ..


لمحتُ فيكَ اٌلتعبْ


غبارُ الألمِ .. عَلِقَ بأصابعي


وأنا أُمسّدُ جبينَ اٌلوقتْ

إستخدمت الشاعرة إستعارات ولا أجمل لتشكيل صورة معبرة بألوان هادئة وزاهية .إنها الوان يمكنني تسميتها ب" الألوان ألأرستقراطية " .حيث تصف نفسها بالوريثة الوحيدة التي استأثرت بآخر سلالات الحزن الشديد ، فالوريث الوحيد عادة ما يكون لأبٍ فاحش الثراء. وتضيف بأنها لا تكفُّ عن التفكير في ذلك الحبيب البعيد حيث أطلقت عليه إسم "بعيدي "
لنلاحظ عبارة "غبارُ الألم علق بأصابعي " ..إنها استعارة تصويرية جميلة وتشعر المتلقي بقوة الألم الواقع عليها . كما أن عبارة "وأنا أُمسّدُ جبين الوقت " وكأني بها تقول : إن الوقت يمر عليها ثقيلاً وبطيئاً ومرهقاً كمن يعد الثواني بالساعات .
وفي مقطع آخر من نفس القصيدة تفتح الشاعرة باب الذكريات بأسلوب مخملي عصري جميل . تقول :

أحياناً


أشعرُ كأنَّ شيئاً ما


ينقرُ شرفاتِ اٌلرّوحِ


يفتحُ بوابةَ ذاكرتي ..


على قنديلٍ يتأرجحُ


في أزقةٍ تَضِجُّ بأشيائِنا


بحضورِنا


كأنَّ اٌلزمانَ يعودُ لنا


وكلُّ اٌلوعودِ تصبُّ بِنا

لاحظ أخي القارئ جمال التصوير واٌلتعبير اٌلمجازي الإبداعي في (نقر شرفات الروح) . وفتح بوابة الذاكرة لمشاهدة قنديل الذكريات الجميلة المحشورة في أزقة "مناطق ضيقة " مكتظة بالذكريات والوعود الجميلة والآمال الواسعة .

ولكن هيهات! .. فخاتمة القصيدة تصدمنا :


ما زلتُ أخافُ اٌلظلامَ .. يابعيدي


..ما أحتاجُهُ اٌلآنَ


شيءٌ من اٌلضّجيجِ


ربما موسيقى وأغنياتٍ


تُدندِنُ


لِيُداهِمَ عينيَّ .. اٌلنومْ

إنه الخوف من ظلام ووحشة الوحدة . وتتمنى لو تستمع لشيء من الموسيقى والغناء لعل النوم يجد إلى عينيها سبيلاً .إنه التشظي شديدُ الوقع على النفس الإنسانية .

وفي قصيدة "مقهى الذاكرة1 " وهي جزء من سلسلة قصائد تحمل نفس العنوان، تنقلنا الشاعرة إلى جو مخملي رومانسي أرستقراطي بامتياز . تقول:

تعالَ .......


لنحتسي فنجانَ شايٍ


ونضيعَ قليلا


مع أوبرا .. " إيما شابلنْ"


لِنَزورَ كلَّ المدنِ اٌلتي .. كُنّا فيها


لنصيرَ سرباً من اٌلحمامِ


و نغازلَ اٌلقبابَ .. والمآذنْ


لو تعلمُ .. كم أشعرُ باٌلسكينةِ ..


حين أسمعُ غناءَ المآذنْ

- إحتساء قدح من الشاي


- ألإستماع إلى أُوبرا " إيما شابلن "


- ألسفر حول المدن


- ألطيران المجازي كالحمام "الحمام رمز السلام والحب"


- مغازلة القباب والمآذن


- ألشوق لسماع الأذان

كل ما سبق يحدث أثناء احتساء قدح من الشاي مع الحبيب .... إنها رومانسية باذخة . ففي المقطع السابق أطلقت شاعرتنا العنان لخيالها الخصب ، فأنتجت صوراً جميلةً هادئة الألوان ، رومانسية الكلمات والتراكيب.
وتنهي شاعرتنا القصيدة نهاية محزنة ، مع المحافظة على الجو الرومانسي الحزين ، حين تقول :

سأطُفيءُ الآن ضوْءَ اٌلقنديلْ


لا بأسَ .. لو قرّرتَ اٌلرحيلْ


فقد تعّودتُ اٌلجلوسَ وحدي


وتعوّدتُ أن أحُدّثَ نفسي


لأنك تأتي وتمضي سريعاً


ولا تتركُ غيرَ اٌلرمادِ ..


في صحنِ السجائرْ
فكل تخيلاتها بوجود الحبيب معها في المقهى ، ذهبت في النهاية أدراج الرياح . وتصرح بأنه لا بأس إن قرر طيفه الرحيل، فقد تعودت على ذلك . وصارت الوحدة هي رفيقة عمرها الذي يمر هدراً والحبيب بعيدٌ . ونلاحظ الصورة الجميلة المتمثلة في أنه لا يترك لها غير الرماد في منفضة السجائر. أي لا يترك لها شيئاً عليه القيمة كما يُقال .

دعونا نبحر في مقطوعة من قصيدة "شتاءُ اٌلزيتون " :

رذاذٌ .. ناعمٌ


يبلّلُ مِعطفَكَ اٌلشّتويَّ


غيرَ آبِهٍ


تمرُّ بأرصفتي


توّقَّفْ هنا..


إرمِ للسائلِ قطعةَ وَجْدٍ


تُلملِمُ شظايا العمرِ


سافرْ سرّاً .. في اٌلروحِ


واٌهطُلْ شلّالَ ماءٍ


في كهوفِ وحدتي


أُغفُ على ترانيمِ اٌلبَوْحِ


لكَ في اٌلقصائدِ


اٌلخلودَ


ولِيَ .. اٌلأنتظارُ


وشهدُ اٌلموتِ ..


بين السُّطورْ

في هذه المقطوعة كما في باقي القصيدة تتجلى صورة التشظي في قمتها وألوانها الصارخة عند امرأة أضناها العشق وبُعدُ الحبيب . فالرذاذ الناعم جميل وهو يبلل معطفه الشتوي ..لعله رذاذ الشوق إليه . ولكنه حبيب خامل لأنه يمر بأرصفتها غير آبهٍ بها وبمشاعرها الجياشة . فترتفع الدفقة الشعورية عند الشاعرة وكأنها تصرخ في وجهه : توقفْ هنا ! وتنطلق منها عبارة شعرية مبتَكَرة ومتينة وقوية ومجلجلة .. ولا أجمل ..( إرمِ للسائلِ قطعةَ وَجْد ... تُلَملِمُ شظايا العمر ) . إنها قمة التشظي . ثم تدعوه ليسافر سراً في روحها وليهطُل كشلال ماء في كهوف وحدتها ( صورة موحشة وقاتمة ومظلمة ) . وتطلب منه أيضاً أن يأخذ إغفاءة على ترانيم بوحها(صورة موغلة في الحزن ) . ثم تختتم المقطوعة والقصيدة بخاتمة موفقة حيث تخبره ان شعرها سيخلّده وهي لن تجني سوى الإنتظار، وهي ترى شهد موتها بين هاتيك السطور . لا أعرف لماذا استخدمت الشاعرة عبارة " شهد الموت " ؟ . لعلها تعبر مرة أخرى عن حالة التشظي باستخدام المتناقضات والمستحيلات . فلا يوجد للموت شهد ولكن العبارة جاءت موفقة ومحيرة للمتلقي، وتحتمل أكثر من تفسير ، وهذا يُحسَبُ للشاعرة لا عليها .

دعونا نلقي الضوء على أشعار المنفى ومدى تأثر الشاعرة بصقيع البعد عن الوطن ، والذي يشكل الحضن الدافئ لها رُغم مآسيه . وقد لفتت انتباهي قصيدة أعتبرُها (أم المنافي) عند د. هناء القاضي ، وهي بعنوان (تقاسيمُ نايٍ ومنارة )، وأرى أن نتعرض لها بالدراسة والتحليل . تقول الشاعرة في المقطع الأول :

تلكَ اٌلسيدةُ .. وكهلٌ


يرافقُها كلَّ صبحٍ..


على اٌلطريقِ اٌلمرصوصَةِ باٌلحجرْ


.....


يطالعُ جريدَتَهُ


يتأمّلُ يومَهُ...


هِيَ..


تشاركُهُ فنجانَ قهوةٍ عندَ اٌلشرفةِ


اٌلمطلّةِ على اٌلبحرْ


...في آخرِ الليلِ


يطبعُ قبلةً على وجنتِها


يحتضِنُها في روحِهِ

تفتتح د.هناء القصيدة بمقطوعة تبدو للوهلة الأولى بسيطة وغير ذات أهمية . رجل كهل وامرأة يحتسيان قهوة الصباح كزوجين جميلين يعيشان حياة رتيبة وعادية . هو يطالع جريدة الصباح ويتأمل يومه . وفي آخر الليل يقبلها ويحتضنها في روحه .وفجأة وبدون مقدمات تدخلنا الشاعرة في آتون القصيدة . لنشاهد المقطع التالي :

بين بغدادَ وبيروتَ


عذراءُ محاصرةٌ باٌلبنادقْ


وأميرةٌ..


حفروا حولَها اٌلخنادقْ


وتاريخٌ له ألفُ وجهٍ


يتبهرجُ باٌلكلماتِ واٌلحروفْ


ليُذبَحَ اٌلأُلوفْ

من هي تلك العذراء المحاصرة بالبنادق بين بغداد وبيروت ؟؟ ومن هي تلك الأميرة التي حفروا حولها الخنادق؟ وأي تاريخ ذاك الذي له ألفُ وجهٍ ، ويتبهرجُ بالكلمات ليُذبَحَ الألوف ؟؟؟ كلمات محيرة وتحتمل أكثر من تفسير .وهذه إحدى ميزات قصيدة النثر الحداثوية .هل العذراء والأميرة هي القضية العربية بشكل عام ؟ أم المشكلة الطائفية ؟ مع لفت الإنتباه إلى أن العراق ولبنان يعانيان من هذه المشكلة اٌلعويصة . وهل تاريخنا مزيفٌ لهذه الدرجة ، فيتسبب بذبح الألوف ؟؟؟.أترك الإجابة للقارئ الكريم ليفسرها كما يحلو له .

وفي المقطع التالي تزيد الشاعرة من حيرة المتلقي بغموض عباراتها المُبرمج مسبقاً والمقصود. لنستمع إليها :

بين بغدادَ وبيروتَ


نايٌ يغني للنَّهْرْ


ورجعُ موالٍ وميجَنا


يصدحُ في عُرضِ اٌلبحْرْ


يثيرُ غبطةَ اٌلنوارسِ


*وباريسُ قبلتُها اٌلمنارةُ


*وصخرةٌ للموتِ ..


ياليتَ اٌلتاريخَ يُلقي عندها


خيبتَهُ واٌندحارَهْ...


ربما..


ربما يستعيد شيئا من كرامتِهِ


ويغسلُ عارَهْ

إن إقحام "باريس"، أو شارع باريس، والمنارة ، وتوظيفهما في النص جاء مقصوداً وموفقاً لسببين:

1- إشارة مباشرة إلى تدخل فرنسا وبشكل سافر في شؤون لبنان الداخلية

2- إشارة غير مباشرة إلى تدخل الدول الأخرى في شؤون العراق الداخلية والخارجية .

وتنهي الشاعرة القصيدة بمقطوعة تبدو للمتلقي أنها وجدانية تحكي عن الذات المحبة والعاشقة .ولكن علينا قراءة ما بين الحروف لنكتشف ما تريد شاعرتنا توصيله للمتلقي :

بين بيروتَ .. وبيني


نهارٌ هَرِمٌ


وحجرةٌ


باعَ اٌلتاريخُ فيها...إرثَهْ


وتخلّى عن قَسَمِهِ .. ووعدِهْ


.....


قبلةٌ..


يطبعُها اٌلصّمتُ


أحتضنُ ... وجهَكَ..


أردّدُ


تقاسيمَ نايٍ .. وحيدْ


وأحلُمُ بفجرٍ...لا تضيّعُني آثارُهْ

ألدلالات هي : (بيروت، وبيني ، ألتاريخ ، ناي وحيد ، فجر)...ألصورة بالنسبة لي اتضحت :
وكأني بهناء القاضي تقول: أنا عراقية أعيش في الشتات بعيدة عن وطني العراق أردد النشيد الوطني العراقي ليُبقي على الإرتباط الروحي ببلدي . ومن حقي أن أحلُمَ للعراق بفجرٍ جديدٍ مشرق . وهنا أشير إلى عبارة إبداعية مبتكرة وهي ( لا تُضيّعُني آثاره ) إنها عبارة ملغمة بالدلالات والتفسيرات المختلفة .
وفي اٌلختام أرجو أن أكون وُفّقتُ في إلقاء بعض الضوء على شعر د.هناء القاضي .تلك الشاعرة المخملية ، والتي أتوقع لها أن تقدم الكثير من إبداعاتها من أجل إثراء المكتبة العربية بنصوصها الراقية .



ليست هناك تعليقات: