الجمعة، 16 أكتوبر 2009

متتاليةُ الصّورِ والصورةُ المركبةُ في شعر إبتهال بليبل




نتيجة لمتابعتي لما تقدمه الشاعرة المبدعة إبتهال بليبل ، وجدتها قد انتقلت نقلة نوعية في فن كتابة القصيدة المنثورة .وقد أثبتت أنها شاعرة مثابرة تعمل على تطوير شعرها وأدواتها .إنها تشق طريقها نحو الإبداع بشكل متبصر بحيث أصبحت تخطط لكتابة النص وتترك العنان-أثناء الكتابة- لخيالها الخصب وثقافتها الغنية وتجربتها الشاملة .. لتنتج لنا نصوصاً مبهرة في بنائها وموضوعها وأدواتها وصورها الشعرية الملونة والمتداخلة بشكل معقد بحيث تنتج في النهاهية صوراً شعريةً مركبةً بشكلٍ فني إبداعي .
وأثناء قراءة النص تشدنا الشاعرة إلى ظاهرة الصور المتتالية المرتبطة بالزمان والمكان والحدث والمَشاهد .وإن تتالي الصور عندها وبشكل فني مركز يسيطر على المتلقي ، ويغريه بقراءة المزيد من الصور . وكأن صور إبتهال بليبل عبارة عن متتالية حسابية لها قانون رياضي يحكمها .
وفي هذه الدراسة السريعة، سأتعرض لعينةٍ من قصائدها الأخيرة .
سنغوض في نصوصها ونرى :
في قصيدة ( شبحُ العناق ) ... تفتتح الشاعرة القصيدة بالمتتالية التالية :

أفَوَاهٌ تَذوّقتْ عَصيرَ الرُّمّانِ

بنَكهةِ كُؤوسِ اللّجونِ

تُقرِؤكَ تَراتيلَ الشّوق ِ المُبَاح ِ

وَ هيَ

تُيمِّمُ سَاقَي الصّمتِ في مِحرابِ جنُونِكْ

وَتعتَلي في حضْرَتِكَ هَسيساً مُسكِراً

سنرى تتالي الصور الشعرية على النحو التالي:
1- أفواهٌ تذوقت عصير الرمان بنكهة كؤوس الفضة ....
-2تُقرِؤ الحبيبَ تراتيلَ الشوق المشروع ....
-3أثناء تيممها لساقي الصمت في محراب حبه ....
-4وتعتلي في حضرته الهسيس المسكر
هنا يكمن الإبداع فقد شكلت متتالية من الصور الشعرية والنتيجة :
(صورة مركبة من عدة صور)
دعونا نغوص أكثر:

ذَاتَ يوم ٍ ....

تغَلغَلَ طَيفُكَ بَينَ رَاحتَي النّبضِ

ينْبُشُ عُمْقَ الكَوْنِ

كَ قَطرَةٍ إلهيّةٍ حارِقَة

فأحْتَويني يــا أنتَ بَينَ زِنديْكَ

أضُوعُ بظِلالِ الهُيامِ

اِقبَلنِي بُرعُماً يرتِعشُ

كَـزَنبقٍ يخضَعُ لدِفءِ أَنفاسِكْ
مرةً أخرى تبهرنا إبتهال بليبل بمتتالية جديدة وتخرج بصورة مركبة أثناء تقمصها لشخصية الراوي " المرأة العاشقة نفسها" لفترة سابقة في قصة الحب التي تتحدث عنها :
1- في أحد الأيام (الزمان) تغلغل طيفك بين راحتي نبضي( ألحدث والمكان).
2- وقام بنبش عمق الكون(كيانها هو الكون ) مثل قطرة إلهية حارقة(بشكل خارق )_( الحدث والمكان)
3- إحتويني بين زنديك
4- أضوع في ظلال الهيام
5- تقبلني كبرعم لم يتفتح بعد
6- برعم يرتعش كزنبق
7- البرعم يخضع لدفء أنفاس الحبيب
من 3 إلى 7 .....تمثل( المَشاهد )
صورة مركبة ولا أجمل للحظة عشق واستسلام لذيذ للحبيب ، وهذا هو قمة الحب الذي يجعل الحبيب يحس أن حبيبه هو الملجأ الآمن والقرار المكين .وقد عبرت عنه شاعرتنا بصورة مركبة نتجت عن متتالية من الصور الصغيرة التي اعطت النص نكهة ومذاقاً خاصاً تتفرد به نصوص الشاعرة .
لنكمل الإبحار :
ذَاتَ زَمنٍ
بِلا وعي ٍ
تَوَسَّدَتُ أجْرامَ السَمَاءِ
بَحثَاً عَنْ يَدٍ تُوقِظُني بِمطرِ الزّيزَفونْ
و مِنْ مُعْتَرَكِ الأَرَقِ
اٌلتفّتْ أعاصيرُ الخَوفِ على مُقلتَي اٌللِّقاءِ
تشّحَذ ُ القَلبَ بِغَيبُوبَةِ الهَذَيانْ
وهيَ
تَتَكىءُ عَلَى دَهرٍ كَتِفُهُ أَعمَى
وتكمل حكايتها بمتتالية جديدة تنتج صورة مركبة جديدة :
1- في زمن مضى ودون أن أسيطر على نفسي وكنت فاقدة الوعي توسدت الأجرام السماوية (حلقتُ في الأعالي)..." زمان ومكان وحدث"
2- كنت أبحث عن يدك لتوقظني من اللاوعي بوساطة مطر الزيزفون (الحب المتدفق)
3- أعاصير الخوف سيطرت على عيني لقائنا
4- أعاصير الخوف تشحذ القلب بغيبوبة الهذيان
5- أعاصير الخوف كانت تتكئ على دهرٍ كتفه أعمى" أعطت الدهر صفة مكانية مجازية "
وكأنها تقول :أحببتكَ رُغمَ أنفي وفقدت السيطرة على عواطفي رُغمَ أنفي .وكأن الشاعرة تتحدث عن امرأة عقلانية أبتليت بنار الحب .
فهي تستكثر على نفسها ما حدث ...وكأنها تحدث نفسها قائلةً : معقول ؟؟؟؟!
من 1 إلى 5 تمثل( مشاهد ملونة )
وتختتم إبتهال بليبل القصيدة بصورة جميلة جداً :

ترحالي بينَ أَزِقَّةِ نَفْسِكَ كَفيفٌ

وغيومُ ماضيكَ تَحجُبُ ضَوْءَ المَعابِرِ

وتُغرِقُ الرُوحَ بِقَطراتِ الشّوقْ

تَوَقَّدْ ياجُرحُ بِحُنجرةِ الصّرَخاتِ

نَحيباً يعلُو بِشَبحِ العِناقْ
في المقطع الأخير تشير الشاعرة إلى أن الحب أعمى كما يُقال :
1- تنقلي بين أزقة نفسك " مكان " كفيف ( حبيبٌ محيِّرٌ وغيرُ واضحٍ والعلاقة معه معقدة ومتعبة )
2- غيوم ماضيك تقف حاجزاً يحجب عني ضوء طريق العبور إليك
3- غيوم ماضيك تغرق روحي بقطرات شوقي إليك
4- أيها الجرح ..زد الألم واجعلني أصرخ وأنتحب ( تحب ألم الحب وتستمتع به )
5- يرتفع نحيبي لأني أتضور شوقاً لعناقك (لعل الحبيب بعيدٌ ولا مجال للقائه ومعانقته ، ولذلك تتمنى أن يلتقيا ليتوَّج اللقاءُ بحميمية العناق ) .
من 1 إلى 5 تمثل مشاهد المقطع .
إنها صورة مركبة ولا أجمل !
لنبحر في قصيدة ( أعوادُ ثقاب) لشاعرتنا ، ليتسنى لنا إثبات وجهة نظرنا من خلال النص :

بَسَطَ كَفّيهِ ....

وَاقْتَنَصَ أعْوادَ ثِقابٍ

لِيُوقِدَ ضَوْءَ قِنْدِيلِهِ الذَّاوِي

بِرُوحِها المُظلِمَةِ

تدَلَّى العُودُ مِنْ ثَغرِ فَتِيلةِ الإحتِواءِ

يُوَشوِشُها بِطَيفِ طُهرِها

وَ إرتِعاشِها

إنحَنى بِرَغبَةٍ

عَلَى صَّمتِها العَابِثِ

بإِشعَاعاتِ الحُطامِ

مَدَّ أَنَامِلَ غَوْغاءٍ

تَلُوكُها بِحُمَّى

مَذعُورَةٍ بغَمْرَةِ الرهْبَةِ

كَادَتْ

أنْ تقَبِضَ المَفَاتِنَ

بدِثارِ الرُّوحِ تَصْفُرُ للنِيرَانِ المُشَتعِلةِ

عَنْ رِّيح ٍ

تَهُشُّ الدبابيرَ الهَائِجَةْ
لنشاهد تتالي الصور والأحداث :
1- بسط كفيه وتناول أعواد ثقاب
2- أوقد قنديله الذاوي الضعيف الموجود في روحها المظلمة (صورة قاتمة اعطت الروح فيها صفةً مكانيةً مجازية)
3- تدلى العود من ثغر فتيلة احتوائه لها (لا زالت تحبه)
4- يوشوشها العود بطيف طهرها وارتعاشها
5- إنحنى العود على صمتها المعبر عن حطامها .. برغبة ( ؟ )
6- كان العود جريئاً حيث امتدت أنامله بحمية وغوغائية تعبر عن اشتعال نيران الرغبة ..ولكنها كانت مذعورة من شدة الخوف
7- كادت انامل الحبيب أن تسيطر على مفاتنها



8- تتدخل الروح أخيراً لتنقذها من هذا الموقف الصعب .وتقوم بطرد الدبابير الهائجة في الحبيبين معاً .ويتغلب الطهر على الرغبة
الجامحة (حب عذري بامتياز).

ألقصيدة عبارة عن مجموعة من الصور المتتالية، أنتجت صورة مركبة ومعقدة .

فالشاعرة إبتهال بليبل تصنع صورها الشعرية الجميلة من تفاصيل التفاصيل. وأود الإشارة إلى أن الشاعرة المبدعة إبتهال بليبل اختطت لها خطاً يميزها عن غيرها من الشعراء .فالمتابع لمسيرتها الشعرية ، لو وقعت عينه على نص موقع بإسم غير إسمها سيصرخ قائلاً :هذا النص لإبتهال بليبل .فشاعرتنا لها عالمها الشعري الخاص وأدواتها الخاصة بها ، ولها أسلوبها الخاص والمتفرد في صياغة العبارة الشعرية .

ننتقل إلى قصيدة من أجمل ما كتبت الشاعرة مؤخراً ، وهي بعنوان

( فنجانُ قهوتِهِ ) :

يرتعشُ الموجُ الرَّمَادِيّ ُ
بطَيفِ جِدارِه ِ...
يتَجَوَّلُ باحِثاً عَنْ لَآلِئِ نَبَأٍ
تتدَلَّى كبُرعُمِ بَنَفسَج ٍ غَجَريٍّ الهُيَامْ...
تتَمَوسَقُ مِنْ مَسَاماتِهِ
قَطرةُ أملٍ مستَلقِيَة ٌ
خَلفَ طوائرِ خيبةٍ مَضَتْ .....
تُقبّلُ ثَغرَ المَسَافَةِ بشَبَق ِ الفُراقْ
تَهِمُّ بالحُنُوِّ ....
ببَسمَلَةٍ على كُهُوفٍ مُوصَدَةْ
وَمُقلٍ يُغطّيها أديمُ الأرَقْ
جَسَدُها غَافٍ ....
عُلِّقَ بفراشِ الوَهمِ
وقُرصَانُ الرُّوح ِ يُديرُ دفّةَ الضَّجَرِ
بشواطىءِ الرَّجَاءْ ...
وتتتالى الصور الملونة والجميلة والجذابة :
1- صورة تموجات وجه فنجان القهوة ( أو بقاياها التي يقرأها قارئوا الفنجان ) وهي ترتعش على جدار الفنجان " مكان " باحثة عن نُتفِ أخبار الحبيب البعيد وشبهتها الشاعرة باللآلئ نظراً لقيمتها الباهظة وندرتها .
2- صورة أخبار الحبيب وهي تتدلى كبرعم بنفسجٍ غجري الهيام .
3- صورة قطرة الأمل وهي تتموسق من مساماته وهي مستلقية خلف الخيبات السابقة .
4- صورة قطرة الأمل تقبل ثغر البعد " المسافة " ..ولكن الفراق أقوى ودلالته كلمة " شبق " . أي يصطدم الأمل ببعد الحبيب وفراقه الطاغي
5- صورة قطرة الأمل تهم بالحنوّ .
6- صورة قطرة الأمل ببسملةٍ على كهوف مغلقة بإحكام "صورة المكان قاتمة جداً " ، وعيون أضناها السهر.
7- صورة جسد المرأة وهو يغفو ومعلقٌ بفراش الأوهام " صورة يائسة " .
8- صورة قرصان الروح وهو يوجه مركب اليأس والملل نحو شواطئ الرجاء .
من 1 إلى 8 تمثل مشاهد المقطع المعقدة .
أليست صورة مركبة ومعقدة تستدعي من المتلقي قراءتها أكثر من مرة لإستيعاب تعقيداتها ؟ .أجزم أنها كذلك .وهنا يكمن إبداع شاعرتنا إبتهال بليبل .

ننتقل الآن إلى المقطع الثاني من القصيدة نفسها :

وهيَ تُقَلّبُ بإصبَعيْها أقدارَهُ الرَّاحِلَةْ

تَقشّرُ جِذْعَ شوقِهِ اليابسِ

بإظفَرِ ثلجٍ أزرقْ

تَخشى أن يَسيحَ

بلهيبِ رياحِهِ...

تَغرقُ بطوفانِ أسرارهِ

زَفَراتُ عَرقٍ تُراقصُ أذرُعَها

تَلوكُها فِي وَتينِ خُلجَانٍ

تحَتضِنُ صَقيعَها
وتغوصُ في لَذَّةِ الحَبَق

ينهَمرُ الموجُ الرَّمَادِيُّ

كبُقعَةٍ لزجةٍ

عَلَى سُورِ عُمقِها

وتتتابعُ الصور :
1- صورتها وهي تقلب أقدار حبيبها الراحلة ، مع تقشيرها لجذع شوقه الجاف بإظفر ثلجٍ أزرق " مقهورة من مرارة هذا الحب " . ولكنها ما زالت تحبه بدلالة خوفها من أن ينصهر في لهيب رياح حبه لها " لعله يرسل إليها دفقات متقطعة من نيران حبه العاصف " . صورة مركبة بإتقان .
2- صورة غرقها في طوفان أسراره " حبيب غامض " .
3- صورة تعرق جسمها من نار اللوعة حيث يلوكها في شريان خلجان تحتضن برودها .
4- صورة غوصها في لذة النبات العطري " الحَبَق " .لعلها الذكريات الجميلة بينهما .
5- صورة انهمار تموجات قهوته على سور اعماقها مثل بقعة الزيت اللزجة " لا تزال تحبه ومتعلقة به " .
من 1 إلى 5 تمثل مشاهد المقطع .
صورة مركبة جميلة بألوان حزينة وعواطف ملتاعة .وهذه هي الصفة الطاغية على أشعار إبتهال بليبل . ويا ليتها تتحفنا بأشعار ذات طابع مفرح .
تختتم شاعرتنا القصيدة بمقطوعة رائعة ذات ألوان صارخة :

لِأَداءِ صَلاةِ الإستسقاءْ

إقتربْ يا رَجُلْ ....

وَ اٌبحَثْ


في مدنِ فنجانِكَ

عَنْ أزِقّةٍ

غارِقَةٍ بفتنةٍ

تلْهَجُ بسماءٍ لم تطأْها أقدامُكْ

صورةٌ ممحلة ٌ لبعد حبيبها عنها .وهذا المَحْلُ بحاجة إلى صلاة إستسقاء .وتدعوه إلى الإقتراب منها والبحث في" مدن الفنجان " عن أماكن ضيقة " أزقة " غارقة بحبه الذي لم يكتشفها بعد ولم يصل إليها . إنها تحبه وهو مقصر ولا يزال يحبو كالطفل باتجاه عواطفها الجارفة .
أخيراً أرجو أن أكون قد وُفقتُ في توضيح متتالية الصور والصورة المركبة عند الشاعرة المُجيدة والمتألقة والواعدة إبتهال بليبل .

ليست هناك تعليقات: